الثورة الرقمية- انزلاقات عالمية، توازنات متغيرة وأزمات إنسانية متصاعدة.

المؤلف: كمال أوزتورك10.14.2025
الثورة الرقمية- انزلاقات عالمية، توازنات متغيرة وأزمات إنسانية متصاعدة.

لقد شهدت البشرية على مر العصور منعطفات حرجة وانحدارات خطيرة، أسفرت عن تحولات جذرية، وكوارث مدمرة، وتغيرات عميقة. ففي أعقاب حقبة الاستعمار والثورة الصناعية، عانى العالم من فترات عصيبة اتسمت بالاضطرابات العميقة، والتحولات الجسيمة، والحروب الطاحنة، الأمر الذي أدى إلى اختلال موازين القوى على مستوى العالم، وتغيير الأوضاع الاقتصادية، وتبديل القيادات السياسية، وتأثيرات جمة على علم الاجتماع بأكمله.

الانهيار من الداخل

ويبدو جليًا أننا نمر الآن بمرحلة مماثلة في تاريخ بني البشر. ففي هذه الحقبة الزمنية، يعيش الإنسان في خضم "الثورة الرقمية" التي يبدو أنها أحدثت تأثيرًا بالغًا وشاملًا لم يشهده العالم من قبل. هذه الثورة تفوق الثورة الصناعية في نطاقها وسرعة انتشارها وتطورها المتسارع. ولهذا السبب، نلاحظ انزلاقات واضطرابات وتحولات كبرى في شتى مناحي الحياة، وفي جميع المناطق الجغرافية بلا استثناء.

لم تُحدث الثورة الرقمية تطورًا في مجال التكنولوجيا فحسب، بل إنها تؤثر بشكل ملحوظ على السلوك البشري، وعلى انتشار العلوم، وعلم النفس، وحتى على السياسة. فنحن في منتصف هذه الثورة، مما يجعل من الصعب علينا استيعاب كامل تأثيرها وفهم كافة التغيرات التي أحدثتها. ومع ذلك، يتوجب علينا أن ندرس الحروب والهجرات والانهيارات التي يشهدها العالم، والأزمات التي يعاني منها الإنسان، باعتبارها اضطرابات ناجمة بشكل مباشر عن هذه الثورة.

إن الولايات المتحدة تمثل القوة المحركة الأساسية لهذه الثورة الرقمية، وهي متقدمة فيها بخطوات واسعة، إلا أن التغيرات الكبيرة والتدهور الذي يشهده بنيانها الاجتماعي قد يدفعها نحو الانهيار من الداخل. فالتيارات اليمينية المتطرفة، والقومية الشعبوية، والسياسات القائمة على تصورات دينية، والسياسات الخارجية العدوانية، وتفشي الجهل، والانحلال الأخلاقي، تمثل تحديات جسيمة لم يجد لها المثقفون الأميركيون حلولًا ناجعة.

إنهم يشعرون بالخوف والقلق؛ لأن هذا التركيب الاجتماعي قد يسمح بوصول شخص غير متزن وغير ملتزم بالقوانين، مثل ترامب، إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية.

تغيير التوازنات

المفارقة العجيبة تكمن في أن الدول التي ازدهرت واشتد عودها بفضل الثورة الصناعية والنموذج الحضاري الذي أفرزته، تتهاوى تدريجيًا، بينما لم تتبلور بعد مراكز القوة الجديدة ولا النموذج الحضاري البديل الذي سيحل محلها.

الصين والهند، بحسب آراء جموع الباحثين، هما القوتان العظميان القادمتان لا محالة؛ فبفضل النمو الاقتصادي المتسارع والتركيبة السكانية الهائلة، ستتمكن هاتان الدولتان قريبًا من تغيير موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم أجمع.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما هي القيم الإنسانية التي تقدمها هاتان الدولتان للعالم المضطرب والمتدهور؟ وما هي الحلول التي تقترحها لمعالجة انعدام العدالة في توزيع الثروات، ورفع الظلم عن الشعوب المستغلة، ومكافحة الجوع والفقر والانحلال الأخلاقي؟ هذا الأمر لا يزال غير واضح المعالم حتى الآن.

لم يتعلم العالم منهما حتى الآن سوى المزيد من السعي المحموم لتحقيق الثروة وتوسيع دائرة التجارة. ولكن هذا يستتبع أيضًا تقاسم الموارد الطبيعية الضرورية لتحقيق الازدهار، وإنشاء طرق تجارية جديدة، وإعادة صياغة العلاقات الاقتصادية.

اليوم، نرى الحروب الأهلية تستعر في أفريقيا، والفوضى تعم أرجاء الشرق الأوسط، والتوترات تتصاعد في آسيا؛ وكل هذا يمثل نتائج مباشرة لهذه التحولات. قد تظهر دول وشعوب جديدة ترفل في نعيم الثراء، ولكن السلام والسعادة لن يجدا لهما مكانًا فيها؛ لأن السلام والسعادة لا ينبعان من إنتاج السلع المادية فحسب، بل من إرساء القيم الإنسانية النبيلة.

أزمات جديدة

وهنا يكمن التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية جمعاء. فالثورة الرقمية تعمل على تذويب كل ما هو إنساني، وتحويله إلى مادة فاسدة، ومجردة من المشاعر والأحاسيس، كما لو أنه مجرد شاشة رقمية. لقد جعلت الثورة الصناعية قيم الإنسان تتسم بالجمود والآلية، بينما تعمل الثورة الرقمية على جعل قيمنا الإنسانية تشبه الشاشات الرقمية الباردة، الخالية من الألوان والحياة والمشاعر، وفاقدة للخصوصية.

هذه هي الأزمة الجديدة التي تواجه البشرية في هذا العصر؛ ففي الوقت الحالي، لا يمتلك المرشحون من القوى العظمى الصاعدة أية مقترحات أو حلول لمواجهة هذه الأزمة المتفاقمة.

ولكن الأمر الأكثر خطورة وإثارة للقلق هو: بينما لم يتمكن الإنسان بعد من إيجاد حل للانزلاق الخطير الذي أحدثته الثورة الرقمية، فإنه يواجه الآن الفوضى العارمة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي، الذي قفز بالثورة الرقمية إلى مستوى جديد تمامًا، وهذه تمثل بداية أزمة وجودية جديدة تهدد مصير البشرية جمعاء.

ووسط هذه الأحداث الجسام، يشاهد العالم مجازر مروعة، كتلك التي تحدث في غزة، والتي تهز أركان الإنسانية وتروع الضمائر. ولمثل هذا السبب، فإن الانزلاق الكبير يتسارع بوتيرة مخيفة تنذر بالخطر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة